التفاصيل :
التضخم وتبدل المصائر في اليمن
تعصف بالاقتصاد والمجتمع اليمني موجة
تسونامي كاسحة من التضخم المفرط، تسدل الستار بطغيانها وعنفها وفتكها على آمال
اليمنيين في حياة حرة كريمة. تتبدل مصائر الملايين منهم مع كل يوم قادم يكتسح
الضخم الجامح حياتهم ويسلب من موائدهم الطعام والآمال من نفوسهم. ومن واجبنا إن
نحذر من أن التضخم المفرط الذي يندفع كالطوفان في قنوات الاقتصاد اليمني من شأنه
أن يبدل كما تفعل بهم الحرب مصائر اليمنيين، ليرمي بهم إلى قعر الهاوية، ويقضي على
كل ما تبقى من وميض خافت في الأمل بالعيش بكرامة وإنسانية. فالتضخم آفة مميته، كما
عبر الاقتصادي الإنجليزي جون هتري – ما أن تمسك بخناق النظام الاقتصادي- الاجتماعي
حتى تسممه برمته. أما مُبشّر الرأسمالية جون مينارد كينز فقد حذر منه قائلا إن ليس
ثمة وسيلة أكثر خبثا وضمانا لقلب الأسس القائمة لوجود المجتمع من تدهور العملة. لا
تكمن خطورة انهيار العملة فقط في مقدرتها على سلب الناس ثرواتهم وحقهم في العيش بأمان
وحرية وكرامه، بل وما تقوم به من سحق للمجتمع، وتغيير لموافقهم، وسلوكهم، اتجاهاتهم
وأفعالهم. إن التضخم الجامح هو نبع الفقر ومورده، الفقر الذي "لو كان رجلا"
لوجب قتله كما قال الفاروق عمر.
لسنا اليوم بصدد تناول معدلات التضخم
ومعدلات تآكل قيمة الريال خلال العقود الأربعة الأخيرة منـذ قيام الوحدة اليمنية
في مايو 1990.
فقد سبق لنا آن تناولنا ذلك بالتفصيل في الماضي القريب في مجلات وصحف عربية ومحلية
مختلفة. ما يمكن آن نشير اليه الآن على عجالة هو أن قيمة الريال اليمني اليوم قد انخفضت
بمقدار 86٪
في شهر ديسمبر الماضي من عام 2023
مقابل الدولار قياسا بعام 2014،
وبعبارة آخري نقول إن قيمة الدولار الأمريكي بالمقارنة مع الريال ارتفعت بمقدار 630٪ خلال تلك الفترة.
ولتوضيح المعني للقارئ غير المتخصص
دلالة انهيار القيمة الشرائية للريال نقول: إذا افترضنا أن متوسط الاجر الشهري
للفرد في اليمن في عام 2014 كان قد
بلغ 100
دولار أمريكي فان القيمة الحقيقية لذلك الراتب أصحبت اليوم تعادل 14 دولارا. إلا أن ذلك لا يكشف عن المحنة كلها. فأسعار السلع
والخدمات (الرقم القياسي للأسعار) ترتبط بعلاقة عكسية مع تذبذب قيمة العملة التي لا
تنمو بنفس معدل هبوطها، بل تتجاوز ذلك بمراحل، وهو الآمر الذي لا يخالف القاعدة.
إن الارقام القياسية لأسعار الجملة
والتجزئة للسلع والخدمات تحلق عادة في السماء بمعدلات وسرعات أعلى بكثير من ارتفاع
قيمة العملة الأجنبية مقابل العملة الوطنية. لـذلك فان اختفاء قائمة السلع
الضرورية من على مائدة طعام غالبية السكان كاسحا ومهلكا، بحيث لا يترك لهم سوى
كسرات الخبز الجافة وفي حالات كثيرة تبقى البطون خاوية لأيام.
لقد دفن التضخم الجامح بالتظافر مع
الحرب الشرسة أمن واستقرار ملايين اليمنيين، الذين كانوا في الماضي القريب ينتمون إلى
الطبقة الوسطى، التي تشكلت ونمت وازدهرت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن
العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
واليوم وفقا للتقديرات الدولية أصبح
نحو 22 مليون يمني من أصل 35 مليونا ينتظرون المساعدات الغذائية، وسقط نحو 65٪ من
السكان في براثن الفقر و65٪
من قوة العمل بلا عمل.
هـذه الأرقام لا تستطيع آن تعبر عن
هول ما يقاسيه اليمنيون اليوم مما يفعله بهم هذان الوحشان الضاريان، الحرب والتضخم
الركودي وهما ثنائي لا يجيدان سوى نزع الحرية والكرامة الإنسانية وإحضار الموت
والهلاك إلى البيوت والأوطان، وفي المحصلة النهائية يتوليان إعادة تركيب النفس
البشرية والسلوك الإنساني ويجرداهما من منظومة القيم والأخلاق الحميدة وأسس
التعايش المشترك والسلوكيات الاجتماعية الخلاقة التي اكتسبها الافراد والاسر
والجماعات على امتداد الآلاف السنين.
الفقر – تقول إحدِى النساء الفقيرات - كحر
الجحيم - تعيشه وتصطلي بناره دون أن تراه. وقد قال لي مؤخرا أستاذ جامعي يعمل في إحدى
الجامعات اليمنية أن حذاءه الـذي اعتاد أن يذهب به الى الجامعة التي يلقي فيها
محاضراته قد تمزق تماما، وليس لديه من المال من يكفي لشراء بديلا منه. وقال آخر
آنه عندما يصاب أحد أبنائه بالحُمى لا يجد سوي الماء البارد لإخمادها، لان قيمة
الدواء صار عنده أمرا بعيد المنال.
نحن نتحدث عن شريحة اجتماعية كانت حتى
عقد مضى من الزمن تندرج تحت تصنيف الطبقة الوسطى، التي تنعم بالحد الأدنى من العيش
الكريم والأمان والاستقرار الاجتماعي. فما حال ملايين الفقراء اليمنيين في الأرياف
والمدن الـذين سلبتهما الحرب وسلبهم التضخم كلما يملكون للبقاء وكل رجاء وأمل في
الحياة بحدودها الدنيا المتواضعة.
وأينما تموضع التضخم الجامح وتمدد وانتشر، تمدد
معه الفقر، والفحشاء، والظلم، والاستعباد. ليس الفقر مجرد الافتقار إلى المأكل
والمشرب والعرى من الكساء والسكن فقط، بل هو أيضا إذلال للروح والكرامة الإنسانية،
وهو جفاف أنهار الحب والرحمة والحنان، وهو نبع البغضاء والكراهية والفتن. ولهـذا
حين يحضر الفقر تحضر النزاعات والصراعات الدامية والقتل. الفقر هو أبو الفاحشة وأم
الاستبداد.
لقد أجاب جواهر لال نهرو ذات يوم على
سؤال ابنته أنديرا غاندي عما تفعله الحروب وانهيار الاقتصاد بالمجتمع قائلا: تنهار
معهما أخلاق المجتمع. وبانهيار الأخلاق يصبح المجتمع بقعة موحشة مظلمة كالغابة لا يعيش
فيها ويزدهر إلا الضواري. أو كما يفضل بعض السياسيين الغربيين المعاصرين نعت الحال
ب "الفوضى الخلاقة".
المجتمع اليمني الـذي عهدناه قبل هذه
الحرب اللعينة، من حيث تماسكه الاجتماعي وأبنيته الاقتصادية والمؤسسية ومنظومته
الأخلاقية والقيمية وحراكه المجتمعي السليم وديناميته الخلاقة المبدعة، يتوارى عن
إنظارنا رويدا رويدا.. كما لو أن فاعلا ومُدبِّرا شيطانيا قد خطط ودبّر ونفّـذ
ليلقي بهذه الأمة العريقة في مدافن التاريخ.
المفاجئ والمحزن هو الاستسلام
والتخاذل والتآمر التي يخيم على الكثير من اليمنيين أمام المصير الـذي ينتظرهم، كما
فعل سلاطين بغداد وسكانها أيام الخليفة العباسي المعتصم بالله الـذين انتظر مع
جنده وأعوانه الغازي الأكبر هولاكو ليدمر مدينتهم ويذبحهم كالنعاج ويأتي على نحو
مليون ونصف من النساء، والرجال، والأطفال، والشيوخ.
تآمر حكام دمشق وحلب والموصل وغيرهم على
بعضهم وذهبوا يتملقون هولاكوا وحثّوه على غزو بلادهم لإسقاط الخلافة العباسية التي
شيدت أنصع الحضارات الإنسانية في التأريخ الوسيط، حتى قال فيهم هولاكو نفسه: ما
شأن هؤلاء الحكام، إنهم لا يدمنون شيئا سوى الخيانة.
ما الـذي نتوقعه من مجتمع سلب التضخم
الجامح بالتظافر مع الحرب الضارية مواطنيه كل وسائل العيش الكريم، وسبل الأمن،
والأمان، والاستقرار. كيف يبدو حال مجتمع يرى السلع تتكدس على رفوف المتاجر وهو
عاجز عن مد يديه لالتقط القليل منها ليسد بها رمق الحياة لأطفاله الجياع؟ يا ترى
ماذا سيكون نمط تفكيره وسلوكه وأحكامه.
لقد قال العرب قديما إذا سافر الفقر
إلى مكان ما، قال الكفر خذني معك. ماذا يُنتظر من مجتمع تمزق نسيجه وتشرد الملايين
من ابنائه في الفيافي والقفار. كيف ستكون نظرتهم لأسر تتفكك يهيم أطفالها في
الشوارع لالتقاط باقي الموائد؟ كيف تكون نظرتهم
للحياة، وما ستكون عليه اتجاهاتهم ونزعاتهم ومواقفهم من أولئك الـذين سلبوهم عيشهم
وامنهم واستقرارهم وكلما هو حق لهم في الحياة الحرة الكريمة.. سلبوهم وجودهم
ووجدانهم وإيمانهم بالقيم الإنسانية والضمير الإنساني التي من دونها جميعا يغدو
العنف والانتقام هما الملاذان الأخيران.
ها نحن ويا للآسف نشهد اليوم بعثا
جديدا وممنهجا لإسقاط الانسان والإنسانية في ادغال الوحشية والبربرية وإسقاط الأخلاق
والضمير الإنساني الجمعي في غياهب قانون الغاب والبقاء للأقوى.
ولما كان ذلك هو الحال القائم اليوم في اليمن، فان التصدي للتضخم وكبح جماحه لا يعد أولوية اقتصادية فحسب، بل هو أولوية اجتماعية وسياسية وإنسانية أيضا.
المصدر صحيفة العرب